تابعنا على مواقع التواصل الإجتماعي
بحث
Search

الضّحك في وجه الموت

الضّحك في وجه الموت

“وضعت باروكة لشعر أسود طويل وكانت جميلة جداً، ثم ارتديت أكثر ملابسي أناقة وركزت على الاهتمام بمظهري، لم يكن مرضى السّرطان الذين معي يتوقعون أنني جئت لآخذ جرعات العلاج، حتى أنني كنت أعزي المريضات اللواتي معي وأضحك وأمزح معهن وأعطيهنّ نصائح للتخفيف من صدمتهنّ وألمهن، لكن عندما كان يحل المساء كنت أبكي على وسادتي وأفكر بحالتي، إلا أنني أصريت على ألا يراني أولادي وأحبائي ضعيفة”.

كل ذلك فعلته أنا بسمة حسين عنتر ابنة مدينة عامودا من مواليد 1969، وحالياً معلمة موسيقا ورسم في الهلال الذهبي بالحسكة، شمال وشرق سوريا، إلى جانب أنني فنانة تشكيلية، وهذه قصتي التي أرويها لمنظمة بيل ولكل امرأة تعاني من هذا المرض الخبيث.

“قبل عدة أعوام لاحظت ظهور كتلة في صدري، ذهبت إلى الشّام وعاينتها وأخذوا منها خزعة لحمية، أعطاني الطبيب دواءً وأخبرني أنه كان كيساً اختفى فيما بعد، ولكنه نصحني أنّ أفحص صدري بين فترة وأخرى، لكنني انشغلت بالأطفال والعمل وأهملت نفسي كثيراً، حتى جاء عام 2017”.

ظهرت الكتلة من جديد، والحقيقة أنني أهملتها، اعتقدت أنها حميدة كالأولى، والأطباء طمأنوني ومنهم من نصحني بإزالتها وأحدهم رأى أنه من الجيد أخذ خزعة بالإبرة لفحصها، وهنا وقعت في حيرة من أمري، حتى نصحتني شقيقتي شمس بإزالتها، وبالفعل أخبروني في المستشفى أنه لا داعي لأخذ الخزعة وأنني بخير، حتى أجريت العملية، وسارت الأمور ببساطة، ولكنني بعد فترة عدت لمراجعة الطبيب للاطمئنان فقط، وعند خروجنا نادى الطّبيب أختي ليتحدث معها، وعندما عادت كان وجهها مُتجهماً، سألتها عما حدث لكنها أجابتني أن كل شيء على ما يرام.

لم يخطر ببالي أن يكون هناك شيء، وعندما كانت أختي تزورني وأنا طريحة الفراش بعد العملية، أخبرتني أن هناك شيئاً عليّ أنّ أعرف به، وهو أنّ الكتلة التي نزعها كانت خبيثة وسرطانية، طبعاً كنت مصدومة والدّموع تملأ عيني، ولم أصدق: شو؟ أنا، أكيد في خطأ مستحيل، بس أنا ما رح أتعالج، الموت أسهلي.

“لن أتعالج” كان رد فعلي الأول وهكذا تلقيت الصّدمة، ولكن أختي أصرت على أن العذاب الحقيقي يكمن في المرض نفسه لا في العلاج، وحاولت إقناعي أنّ أطفالي صغار وهم بحاجتي وأنّ الأمل موجود، وفي مساء اليوم نفسه اجتمعت عائلتي وأصدقائي من حولي ليدعموا مُصابي، وعندما رأيتهم هكذا مصدومون، عاجزون، ينتابهم الحزن والشّفقة علي، بدأت بتعزيتهم وإخبارهم أنني سأتلقى العلاج وأشفى، شجعتهم والحري بي أن أقول أنني كنت أشجع نفسي.

عندما عاد زوجي من الحسكة وكان عمله فيها، وكنا آنذاك سكان قامشلو، أخبرته بأنني مريضة، بالطبع أخذ وقتاً لتقبل الخبر، وقرر على عجل بيع المنزل لأن العلاج مُكلف، وهو لن يتركني للمرض لينهش جسدي، لقد كان سنداً حقاً، إلا أنّ الموقف الذي شعرت فيه بالمُساندة حقاً جاء من عائلتي وأقربائي، الذين جمعوا المبلغ الذي تيسر لهم، وأعطوني إياه، إنه موقف مُؤثر، في مثل هذا الموقف يعلم الإنسان معنى أنّ تجد الأمان والدّعم في أشخاص، هم لم يبخلوا عليّ بالدّعم المادي والمعنوي.

وبدأت بالخطوة الأولى نحو العلاج، بحثت عن طبيبة وفكرت في كل الاحتمالات المُتاحة، وقررت تلقي العلاج في قامشلو، والتي بدورها قررت إعطائي 4 جرعات في البداية ومن ثم إجراء عملية لإزالة الصّدر والـ4  جرعات المُتبقية ستكون في نهاية العلاج، وبالفعل، بدأت بالجرعات مباشرة خشية أن ينتشر السّرطان، وكان صعوبتها شيئاً لا يمكن أن يوصف، فكل 21 يوماً كنت آخذ جرعة.

أتعلمنّ، ربما من الأشياء التي خففت عني في تلك الفترة، أنّ بين من كانوا يتلقون العلاج كان هناك شابٌ مراهق، حتى أنني حمدت الله أنّ المرض أصابني أنا ولم يصب أحد أبنائي أو عائلتي، وهنا بذلت جهداً أكبر لأكون قوية، رغم أنّ الجرعات كانت كـ “سم يدخل الجسد”، أشعر بقشعريرة حقيقية عندما أتذكرها.

أذكر أنني بعد أن أخذت أول جرعت، بدأ شعري بالتساقط، لذا وضعت في الجرعة الثّانية باروكة على رأسي، وعندما دخلت إلى الطّبيبة بدا عليها الانزعاج والتّوتر، ولمست رأسي وعندما تبين أنها باروكة للشعر أظهرت علامات الارتياح، وأخبرتني أنّ تساقط الشّعر أمر لا مفر منه ويدل على أن العلاج يأخذ مفعولاً.

لن أنكر، كنت اتألم عندما أرى شعري يتساقط، وطلبت من زوجي أنّ يحلقه، فأستجاب لطلبي وجلب عدة الحلاقة، بالطبع كان الأمر مؤلماً وجعلني أكتئب، لأن المرأة بشكل عام تحب أنّ تُظهر الجانب الجميل منها وخاصة أمام زوجها، رغم ذلك طلب مني أنّ لا أنظر في المرآة ووضعت القبعة مباشرة حتى لا أرى رأسي، أخبرت نفسي أنّ الشعر سيعوض وأنني قوية.

كانت أختي سندي في تلك الفترة، ولم أكن أحتمل نظرة شفقة في عيون النّاس، لذا أخبرت نفسي مراراً وتكراراً أنني سأشفى وسأعيش، وبالفعل أجريت العملية ونزعوا صدري بالكامل وأتممت علاجي كاملاً، وسافرت إلى اللاذقية وأخذت 22 جرعة مركزة للعلاج بالأشعة، وكان كل شيء مؤلماً وناجحاً، ظننت أنّ الكابوس انتهى، حتى جاء عام 2019.

شعرت بألم مُرعب في عيني ورأسي، أخبرني الطّبيب أنها ربما شقيقة، وعندما اقترب العيد راجعت طبيبتي في قامشلو، وهنا كانت الصّدمة، ظهرت كتلتين جديدتين في المكان نفسه، أنا الآن أمام الخطر ذاته، ونصحتني الطبيبة بإزالتها بسرعة، وبالفعل أجريت العملية في اليوم الثاني، دون أن أخبر أحداً حتى لا أثير قلق عائلتي، وبعد العملية أبلغوني بأنني سآخذ 7 جرعات إضافية، لم يتساقط شعري كثيراً، لكن الألم كان مضاعفاً هذه المرة، ولشدة الأمر شعرت في إحدى المرات بألم كبير في كافة انحاء جسدي وسقطت على الأرض، حتى تبين أنني أعاني من الالتهابات ووصفت لي الطبيبة 32 إبرة كنت آخذها صباحاً ومساءً وليلاً في الوريد.

وبعد أن أنهيت الجرعات الأربع الأخيرة، أشار عليّ عدد من الأطباء أنّ أقوم بالتجريف، وآخرون قالوا إن عليك أنّ تخضعي للأشعة، لذا ذهبت إلى كردستان_العراق، وهناك رفضوا أنّ أتلقى العلاج بالأشعة للمرة الثانية باعتبار أن جسدي لن يتحمل وخصوصاً أنّ الجرعات الأولى كانت مركزة، لن أكذب عليكنّ، كنت سعيدة لأنني تخلصت من علاج الأشعة، لأنك تشعرين بكل جزء من جسدك يؤلمك، لذا بدأت أركز على الاهتمام بنظامي الغذائي والسّير والرّياضة وشرب المياه بكميات كافية، والعناية الذاتية فـ “الوقاية خير من قنطار علاج”.

وبعد أنّ تحسن وضعي، ذهبت إلى مركز هلال زيرين في الحسكة، وبدأت أُدرس الرسم، ثم توجهت إلى الأستاذ حسن حمدان لأقوي نفسي في المجال الذي شغفني حباً، وبالفعل كان هناك معرض فنانين الجزيرة في قامشلو، شارك فيه 130، فاز منها 20 لوحة، كانت لوحاتي من بينها، وكان ذلك تشجيعاً لي لأكمل المشوار، وخلال عامين وصلت إلى مرحلة مُتقدمة، وشاركت في معرض الخابور الأول للفن التّشكيلي، وأحضر للمشاركة بلوحة عن المرأة في معرض سيقام قريباً، وحتى أنني أسست فرقة فنية للأطفال.

تناولت العديد من الوكالات الإعلامية قصتي، وكتب عني العديد من الأشخاص، في الحقيقة أشعر بنشوة حقيقية عندما يشيد الجميع بما يصفونه بـ “انتصاري”.

هذه كانت قصتي التي حاولت أنّ أنقلها إليكنّ بكل سلاسة، هي ليست قصتي وحدي، هذه قصة كل امرأة أصيبت بسرطان الثّدي، وسعت إلى النّجاة من الموت وجابهت الخوف بضحكة، لن أقول إنّ الطّريق سهل لأنه ليس كذلك، ولكن مُتعته تكمن في النّجاة والوصول، عاد شعري لينمو من جديد، إنه قصير الآن، ولكنه بعد بضعة سنوات سيصبح طويلاً وستشهد خصلاته على نمو الحياة إن ارادت من وسط الموت.

Related Posts